مدن الملح: التيه — A Blitzkreig Review!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العرش العظيم والصلاة والسلام على نبيه الكريم.

رواية (مدن الملح: التيه) هي الرواية الأولى في خماسية الكاتب عبد الرحمن منيف، والتي يتحدث فيها عن النفط والصحراء، والتحول المرافق لاستخراج النفط، من الريف إلى المدينة، ومن القبائل إلى الدولة وغيرها من نواحي التغيير المختلفة.

الرواية مختلفة عن النسق المعتاد للروايات، وعدم أخذ هذا الإختلاف بعين الاعتبار يجعلك تحكم على الرواية حكماً مسبقاً ربما يكون بعيداً عن الحقيقة. وأول هذه الإختلافات هي عدم وجود شخصية مركزية واحدة. فلأن الرواية تتحدث عن تحول مجتمع كامل، فلن يكون من الممكن أن تدور الأحداث كلها حول شخصية مركزية من بداية الرواية حتى نهايتها. على العكس من ذلك، ستجد الكاتب يغير الشخصيات المركزية في كل جزء من أجزاء الرواية، وربما يحدث ذلك مثلاً كل 150 صفحة على وجه التقدير، وفي رواية من 600 صفحة فأنت أمام أربع تغييرات للشخصيات وربما أكثر إذا أخذنا الشخصيات الأصغر حجماً.

تبدأ الرواية مثلاً من مدينة وادي العيون، ويبدأ الكاتب معها بناء بعض الشخصيات، ولكنك تتفاجأ بأنها تكاد تختفي بعد مئة أو مئة وخمسين صفحة، وتفاجىء بشخصيات جديدة تماماً تبدأ الأحداث تدور حولها! تستغرب في البداية، فلماذا كل ذلك البناء إن لم تكن الشخصيات ستستمر معك لآخر الرواية؟ ما الهدف منها؟ وهنا قد يصدر عنك حكم بأن الرواية مملة وطويلة وفيها استطراد وإطالة غير مبررة! ولكن الواقع ليس كذلك!

فهذه الشخصيات ليست في الحقيقة تجسيداً لشخصيات بعينها، بل هي تعبير عن شريحة معينة من شرائح المجتمع الذي يتحدث عنه الكاتب، وكيف تتعامل هذه الشريحة مع تلك التغييرات المفروضة على المجتمع بسبب ظهور صناعة استخراج النفط بشكلها الهمجي الاستغلالي ذاك! وهكذا تجد أن تغيير الشخصيات بين الحين والحين هو استعراض لشرائح مختلفة من المجتمع وكيف تتعامل تلك الشرائح مع هذه التغييرات.

فشخصية متعب الهذال مثلاً، هي التعبير عن الشريحة الرافضة للوجود الأجنبي في البلاد، والتدخل الخارجي في شؤونه، وسرقة ثرواته بهذا الشكل! وهي التي ترفض تغيير العادات والتقاليد بهذا الشكل الفج! وترفض التخلي عن الأرض، التي هي إرث الأجداد! وهي بالتالي تعبير عن التمسك بالأصل ورفض التقليد للغرب!

ابن الراشد مثلاً هو تعبير عن الشريحة التي تحاول استغلال الأوضاع (كأثرياء الحروب) والاستفادة منها لزيادة ثروتها بغض النظر عن الأفعال اللاأخلاقية ومنعدمة القيم التي يقومون بها! فالكذب وسيلة رئيسية لهذه الشريحة، واستغلال حاجة العمال وخداعهم وسيلة لجني الأرباح وتكوين الثروة.

شخصية الأمير، التي هي مثال وتجسيد لحال الأمراء في تلك الدولة من أول تأسيسها وحتى اليوم! فهم لاهون منصرفون لأهوائهم وملذاتهم الشخصية! غير مكترثين بسرقة الأجنبي لثروات البلاد، غير مكترثين بالتصرفات اللاأخلاقية للأجنبي مع العمال (الذين هم أهل البلاد أصلاً وأصحاب الثروة فيها!)، غير مكترثين لسرقة ثروات البلاد أصلاً! فهم لاهون بأتفه الأشياء عن أعظم الواجبات! ويمثل عبد الرحمن منيف هذه الشريحة تجسيداً رائعاً بتصرفات الأمير في هذه الرواية! فبينما تحدث بعض الاحتجاجات في أحداث الرواية نجد الأمير غير مهتم ولاه بما لديه من منظار يراقب به الناس أو جهاز راديو يستمع به إلى نشرة الأخبار!

شخصية الدكتور صبحي، تجسيد للأجنبي الذي يأتي ويحاول الاستفادة من الأوضاع الجديدة بفرض مشاريع معينة (المشفى هنا) والاستفادة منها مادياً، حيث أنها مشاريع جديدة على المنطقة. شخصية جوهر تمثيل لامتداد سلطة الدولة واستخدامها الهمجي للقوة لبسط سلطة ونفوذ الدولة. شخصية آكوب وراجي تجسيد لمعاناة اليد العاملة الأجنبية. شخصية مفضي ربما هي تجسيد للشيوخ المتمسكين بالدين والرافضين لتلك المظاهر المدنية المخادعة! وغيرها الكثير من الشخصيات التي تتعاقب مع تقدم الأحداث ابتداء بمدينة وادي العيون وانتهاء بمدينة حران.

وهنا ملمح آخر يكرس له الكاتب الكثير من الصفحات، وهو التغير الحاصل على المدن الموجود مسبقاً، مدينة وادي العيون، والتغيير الحاصل أثناء بناء المدن الجديد، كما في حران. فأحداث الرواية تبدأ من مدينة وادي العيون التي هي المنبع النفطي في روايتنا، وتنتهي بمدينة حران التي هي الميناء النفطي. ويتحدث الكاتب بأسلوب قوي عن التغييرات الحاصلة في كلا المدينتين، والتي لا أجد وصفاً لها إلا بالتغييرات الهمجية! فالأمريكي القادم من وراء البحار لا يهتم بالناس ولا بأراضيهم ولا بالصدمة الحاصلة من ذلك التغيير المفاجىء، فكل ما يريده هو استخراج النفط من وادي العيون ورجره إلى حران وسرقته بعدها! هذا التغيير الفج في بنية المجتمع البدوي المتاسك يترك صدمة قوية لدى شخصيات الرواية، تتجسد مثلاً في مغادرة متعب الهذال لوادي العيون لغير رجعة!

إذاً:

  • الرواية لا تتحدث عن شخصية مركزية، بل عن تغير وتطور مجتمع كامل.
  • الشخصيات هي تجسيد لشرائج مختلفة من المجتمع، يصفها الكاتب ويرصد تعاملها مع التغييرات الجذرية الحاصلة.

ويلفت الكاتب نظرنا إلى الكثير من النقاط المهمة، والتي تغفل عنها الكثير من المقالات المختصة ربما! مثال ذلك اهتمام المجتمع الوافد (الأمريكي هنا) بدراسة المجتمع الأصلي وأهل البلد، دراسة وافية ودقيقة تغوص إلى أدق التفاصيل. وليس الهدف من هذه الدراسة طبعاً سوى حسن استغلالهم وسرقتهم بالشكل الأمثل. وهذا الاتجاه لا ينحصر على الأمريكان بل هو سمة لكل القوى الاستعمارية التي استعمرت (أو لنقل احتلت واستهدمت) الدول العربية من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها! كانت فكرة دراسة المجتمع والتعرف على الناس فيه قائمة بشكل دائم في كل حركة كولونيالية استعمارية! وهذه الدول دائماً ما تستعين بشيئين لضمان سرقة ثروات البلد واستمرار سيطرتها عليها، الأول دراسة المجتمع وفهمه وفهم العلاقات بين الناس، والثاني استخدام فئة محددة من المجتمع ومنحها القوة وتمكينها لتكون ذارعاً تحقق بها كل ما تريده. وأعتقد بأن هذه النقطة ستتوسع في الأجزاء التالية للرواية.

ويلفت الكاتب النظر لظروف العمال السيئة جداً، وهم أصحاب البلد والثروات، مع ظروف الأجانب الذين أقاموا لأنفسهم بيوتاً مستقلة تماماً عن بيوت ومساكن العمال! فتخيل هذه المفارقة! رغم أن العمال هم أصحاب الأرض وأصحاب الثروة إلا أن الدول الاستعمارية تعاملهم وكأنهم رقيق وعبيد لديها! تسحقهم بالعمل وتستفيد هي من كل الثروات! حتى أنها لا تأتي بالعمال من سكانها! بل تسعى لأن تكون الطبقة الكادحة العاملة من أهل البلد!

وخضوع الأمراء يسهل للأمريكان هذه المهمة، والسطوة التي يفرضها الأمراء عبر مجموعة من العناصر المريضة نفسياً والتي تسعى لسحق أي حراك سلمي، هي تصوير مبدع للكاتب عبد الرحمن منيف صور فيه ليس الوضع في تلك الدولة فقط، بل ربما في كل الدول العربية! (بكل تأكيد وليس ربما!)

إذاً:

  • المحتل السارق لثروات الدولة يدرسها ويحاول فهم كل العلاقات القائمة بين الناس، ويهتم بدراسة تفاصيل حياتهم ومعتقداتهم وأفكارهم! كل ذلك لتسهيل السيطرة عليهم وفهم نقاط ضعفهم وقوتهم.
  • رغم أن العمال هم أصحاب الثروة وأهل الأرض، فإنه تتم معاملتهم معاملة العبيد ويسرق تعبهم ومن ثم ثروات بلدهم!
  • خضوع الأمراء للأجانب هو ما يسهل هذه المهمة!

أمور لفت الكاتب النظر إليها بحرفية عالية:

  • المبتعثون من قبل الغرب لتسيير أمورهم في الدول العربية (سرقتها بمعنى آخر) يكونون على دراية عالية بثقافة المجتمع المستهدف وعاداته وتقاليده، حتى أنهم مثلاً يحفظون شيئاً من القرآن كما ذكر الكاتب هنا!

—””ولكن ماذا يريدون منا وما همهم إذا أصبحنا أغنيار أو بقينا على حالنا؟ إنظر إلى عيونهم، إلى أقوالهم وتصرفاتهم، إنهم شياطين، ولا يمكن لأحد أن يثق بهم. إنهم ألعن من اليهود، ويحفظون القرآن أولاد الحرام.. عجايب!””

—””كما أنهم لا يفعلون شيئاً (الأمريكان في أثناء زياراتهم للعرب) سوى الحديث مع الناس وسؤالهم عن كل شيء!””

—””وما كاد يذهب الصغار ويهدأ الجو، حتى يفتحوا (الأمريكان) الكتب التي يحملونها، يقلبون صفحاتها ثم يبدؤون الأسئلة! كانوا يستوقفون الرجال عن بعض الأسماء، يطلبون إليهم أن يكرروها أكثر من مرة، حتى إذا أعادوها بعدهم كتبوا ذلك على تلك الأوراق الملونة””.

  • تواطؤ الحكومة وتجاهلها مصالح الشعب على حساب الغرب! (الحكومة غارقة في ملذاتها!)

—””والماء، اين الماء وكيف سيجدونه؟! والحكومة.. هل تعرف الحكومة أين هم وماذا يفعلون؟””

  • ومن تواطؤ الحكومة أن الشعب لم يكن يدري أساساً ما هي أهداف هذه البعثات الأجنبية من الأصل!

—””الجماعة عندهم سالفة، والماء حجة!””

  • تحدث عن الروابط التي تربط المسافرين، بأهلم المقيمين في وادي العيون، وكيف أن الرسائل بينهم تهون مشقة الانتظار وقوسة الغربة.

وهذه النقطة ملمح جميل جداً، فالمغترب عن أهله وخصوصاً في تلك السنوات لا يجد سوى الرسائل وسيلة لتسهيل غربته وتهوين مشقاتها عليه. كما أن تلك الرسائل وحبال التواصل التي يمدها المغترب إلى أهله من رسائل وبعض الدراهم تهون عليهم مشقة الإنتظار ومرارة البعد!

—””الرسائل والدراهم وتلك الأقمشة الملونة التي يبعث بها المسافرون كانت مثل حبال خفية تربط المقيمين بالغائبين، وتجعل المسافرين موجودين بأصواتهم وملامح وجوههم، وتجعل الحياة ممكنة لهؤلاء الذين لا يتعبون من الانتظار في وادي العيون.””

—””فإن زادت الرطوبة عن حد معين وأثقلت الجرارة المصحوبة برياح غربية الجو بطبقة من الغبار الكثيف، وأصبح الناس غير قادرين على الاحتمال، فلا بد أن تكون صور أبنائهم المسافرين هي التي تثبتهم في هذا المكان النائي من العالم وتجعلهم يصبرون ويحتملون.. وينتظرون!””

ولعل من المناسب أن نذكر أن الشيء نفسه يهون مرارة مرور الوقت على السجين، فحين تكون الزيارات مسموحة بين السجين وأهله وإن تباعدت فإن ذلك يهون سطوة مرور الوقت على السجين، ويردم الفجوة التي تتشكل بين السجين وأهله وما يحدث في الخارج. وتحدث عن ذلك ياسين الحاج صالح في كتابه (بالخلاص يا شباب) الذي يصنف بشكل من الأشكال في أدبيات السجون. وذكر أن الزيارات بقيت مسموحة لهم (السجناء السياسيون) في سوريا بينما حرم منها السجناء الإسلاميون عشرات السنين وربما طيلة مدة حبسهم إن نجوا من الموت! وذكر أن تلك الزيارات كانت تخفف من وطأة الانتظار وتربط بين السجين والعالم الخارجي وأهله.

  • كما صور كيف أن الأمريكان (في غزوهم هذا) لا يحترمون ثقافة البلد ولا موروثه الأخلاقي والديني، ولا يراعون العادات والتقاليد! فهم يتصرفون بغير رادع أخلاقي وبدون أي احترام للمضيف!

وذلك لأنهم يعلمون بأنهم أتوا بالقوة، وبالتواطؤ مع الحكومة، فإذا كانت الحكومة مطأطأة الرأس لهم وكانوا لا يحرمونها، فهل يحترمون الشعب بعد ذلك!!

—””وأصبح الأمريكان يقضون وقت الظهيرة من كل يوم في الشمس، مبطوطحين على وجوههم، لا تستر أجسادهم سوى سراويل قصيرة! كانوا يفعلون ذلك غير مبالين بالناس من حولهم من صبية ورجال، وكأن الواحد منهم داخل خيمة!“”

—””وأن الذين جاؤوا من طرف الأمير مع هؤلاء (مع الأمريكان) كانوا أعجز من أن يفعلوا شيئاً، كل ما يملكون هو أن ينقلوا ما يقوله الناس إلى المترجم””.

  • صور المؤلف شكل السلطة، فالأمراء يعتقدون بأن الأرض أرضهم ولهم حق التصرف بها كيف شاؤوا، شاء الشعب ما شاؤوا أم لا! فهم الأمراء!

—””ولكن حنا نريد مساعدتهم، وأنت إذا كنت لا تريد فأرض الله واسعة.””

والحديث هنا كان مع متعب الهذال الذي كان يرفض الحجة المقدمة من الأمير بأن هؤلاء الأمريكان جاؤوا للمساعدة! فخاطبه الأمير بأنه هو (الأمير) يريدها وبعد ذلك لا يهم ما يريد متعب الهذال (الذي هو تمثيل للشعب الرافض لكل ذلك).

وفي ذلك يقول الأمير:

—””تحت أرجلنا يا ابن الراشد بحار من النفط، بحار من الذهب، والخويا (الأمريكان) جاؤوا ليخرجوا النفط والذهب””.

—””ولأهم يحبون الخير، ولأنهم أصدقاء قالوا (أي قال الأمريكان): الجماعة يستاهلون المساعدة وجاؤوا.””

وهنا تصوير مبدع للخداع الذي تقوم به الحكومة من جهة، والغرب من جهة أخرى على شعوب المنطقة! بتصوير السرقة على أنها محاولات لمساعدة شعوب المنطقة!

ويبدع عبد الرحمن منيف في كشف هذا الخداع والكذب، فيقول على لسان متعب الهذال:

—””لكن اعلم يا طويل العمر، أن الأمريكان ما يعملون شيء لله””.

—””وهؤلاء الكفرة هل يمكن أن يعطوا الذهب دون مقابل؟ وإذا كان لا بد من دفع المقابل.. فماذا يكون؟””

  • وناقش منيف في غير مكان فكرة رفض المجتمع لكل ذلك التغيير القسري المصاحب لعملية السرقة تلك، وصور عدم اكتراث السلطة على كل لك، واستمرارها في محاولة ترويج فكرة ساذجة مكشوفة تماماً ومعلوم مدى الكذب فيها!

—””أما حين قال أحد المسنين أنالحياة التي يعيشونها ترضيهم ولا يريدون أن تتغير كما يريدون شيئاً آخر، فقد تطلع ابن الراشد (ممثل السلطة) إلى الوجوه باهتمام وكأنه يبحث عن ابن متعب الهذال، وبعد أن التقت أعينهم للحظة خاطفة قال للرجل المسن: يا عم بعد كم سنة تقول لنفسك: علوان لو كنت أصغر وأقوى، لأن الخير الجاي يغرق الدنيا، وكل واحد لازم يغرف منه نصيبه””.

—”” وفسر غيرهم الأمر بأن الأمريكان ورائحتهم ورائحة البلايا التي جاؤوا بها تقطع نفس الكلب””.

  • إحدى الأفكار القيمة التي أوردها الكاتب هي الاختلاف بين الإنسان العربي والغربي فيما يخص التعامل مع النساء، وخصوصاً المتعريات منهن. وهذا الاختلاف الذي تحدث عنه الكاتب في سطر واحد، يحتاج إن أردنا دراسته لمقالات كثيرة لتناول أسبابه وبحث تفاصيله. ولكن الخلاصة أن اعتياد الإنسان الغربي على مشاهدة مظاهر العري أزالت منه الحساسية تجاه هذا الموضوع وبات لديه عادياً! وهذه سمة من سمات الاعتياد والتحول عند الإنسان.
  • أما الإنسان العربي وخصوصاً في صحرائه، حيث النساء لهن حرمة خاصة، ومكانة عالية رفيعة فلا يقربهن إلا فئة مخصوصة بهن! فالإنسان العربي لديه حساسية عالية تجاه مظاهر العري هذه التي اعتاد الإنسان الغربي عليها فأصبح لا يتأثر بما يراه من عري!
  • ويمكن أن نضيف أن هذا الاعتياد جعل حتى من علاقة الرجل بالمرأة علاقة محطمة، فكان لذلك يحتاج إلى الجنوح بهذه العلاقة إلى حد التطرف لتعود مثيرة كما كانت في أبسط أشكالها!
  • ولعلنا نضيف أن أخفى ثمار الاختلاط في المجتمعات الغربية هي عزوف الرجال عن الزواج وطلب الزوجة، لاعتيادهم على قرب النساء منهم، وتلبية معظم الاحتياجات بدون الحاجة لهذا الزواج!

—””إن هذا الذي يقوله الأمير شيء لا يصدق، ولا يمكن للإنسان أن يتخيله: نساء حقيقيات عاريات يتجولن بين الرجال على ظهر الباخرة! والرجال.. كيف يمكن أن يتحملوا مرورهن أو اقترابهن دون أن يحترقوا!””

  • تحدث منيف عن التغيير الحاصل لبعض الساعين وراء الثروة أو السلطة، التغيير التي تسببت به الثروة أو السلطة بحد ذاتها، بحيث تنكروا بعدها لأهل بلدهم وكانوا يداً مطلقة للحكومة تنفذ عبرهم دورها في مساعدة الغريب في سرقة ثروات البلد، على حساب غرقهم في اللذات والشهوات!

—””البذلة خربته، خربته تماماً! صارت مثل البردعة على روحه””.

وهنا يتحدث عن شخصية جوهر، التي تمثل السلطة الأمنية التي أطلقت الحكومة يدها على الشعب بدون أي رقابة أو محاسبة! بحيث أن هذه السلطة الأمنية تصل بها الأمور إلى القتل بدون أي يرف لها جفن! ما دامت مصلحة الحكومة تتحقق، ومصلحة الحكومة هنا تسهيل سرقة الثروات!

وفي هذا الملمح أيضاً إشارة عميقة إلى تغير مشاعر الإنسان ونفسيته عندما يصل إلى موقع سلطة وقوة أمنية، بحيث يخرج الوحش الذي بداخله بدون أي حد يمنعه، ما دامت الحكومة لا تمارس عليه أي رقابة! وهذه الظاهرة بحد ذاتها تستحق الدراسة والتمحيص لأنها حدثت وتحدث في كل الدول العربية، وخاصة في سوريا وكيف رأينا تجليات هذه النقطة في الثورة السورية!

  • وفي هذا السياق يشير الكاتب أيضاً إلى الدور الذي لعبته الحكومة في صناعة هذه القوة الأمنية وتوجيهها لفعل كل ما يلزم لضمان ما تريده الحكومة، أياً كان!

—””أريدكم تعلموهم الموت الأحمر شلون يكون، كسروا عظامهم. العنوا والد والديهم ولا ترحموهم!””

  • كما لفت منيف النظر إلى قضية يمكن أن نعبر عنها بـ “توغل الحكومة” كما يصفها عبد الوهاب المسيري، وهي تدخل الحكومة في كل شاردة وواردة وإخضاع كل شيء لموافقتها أو رفضها! وهذه بحد ذاتها قضية كبيرة ولها كتبها التي تبحثها وخير من تحدث عنها برأيي هو عبد الوهاب المسيري. والتلميح لها في نصوص الرواية من قبل عبد الرحمن منيف إشارة ذكية إلى التغير المجتمعي بكافة مستوياته وبأدق تفاصيله!

—””الجماعة وصلوا لأرواحنا، ما ظل إلا أن يطلبوا من الرجل أن يطلق زوجته! تفو!””

—””ولم يتصور أن يأتي يوم يجبر الناس على أمور لا يطيقونها أو غير مقتنعين بها.””

هذه مجموعة من الأفكار التي أشار إليها عبد الرحمن منيف في الجزء الأول من خماسية مدن الملح، وهي على اختلافها عن نهج الروايات التقليدي، إلا أنها تتميز بأنها تصور وتنقل مرحلة مهمة تاريخياً واجتماعياً في تغير دول المنطقة! تشترك بها مع كل الدول العربية في نقاط معينة وتتميز بنقاط خاصة بها كونها دول نفطية وصحرواية.

الرواية برأيي تستحق القراءة بكل تأكيد، وربما تستحق الإعادة على طولها لما للأفكار التي فيها من أهمية كبيرة في فهم الدور الذي لا تزال الدول الاستعمارية تلعبه في المنطقة، وكيف بدأت به أساساً عند نشأة تلك الدول وبداية سرقة ثرواتها بشكل مخفي من وراء حكومات مصطنعة عميلة لها!

أضف تعليق