خواطر منتصف النهار! (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العرش العظيم والصلاة والسلام على نبيه الكريم.

الغفلة والجهل!

يعطي الإنسان أهمية كبيرة جداً لما أثره لحظي أو أقرب ما يكون للحظي في حياته. وكلما كان الأثر أقرب زماناً كان اهتمام الإنسان به أكبر وأشد. فالطالب الذي لديه امتحان في آخر السنة ربما لا يعير الدراسة الكثير من الأهمية، ولكن مع اقتراب موعد الامتحان تراه يبدأ يلتفت لما فرط به منذ بداية السنة! وفي ليلة الامتحان تراه على أشد ما يمكن أن يكون عليه الدراس مع كتابه!

هذا النموذج يتكرر في كل شيء تقريباً! والمشترك أن الأثر كلما ابتعد كلما قل اهتمام الإنسان به، وليس الأمر معمماً بكل تأكيد. ففي مثالنا السابق لا شك أننا نجد بعض التلاميذ الذين يأخذون الامتحان على محمل الجد منذ اليوم الأول وحتى نهاية العام، حتى إذا جاء الامتحان كانوا جاهزين مستعدين له، وكانت تأديتهم له عملاً بسيطاً هو ثمرة دراستهم المستمرة طيلة السنة.

وتتدخل شهوة النفس في الأمر أيضاً! فمثلاً المدخن هو مدمن من الناحية الطبية (Substance Addiction)، ومادة الإدمان هي مادة النيكوتين الموجودة في التبغ. وعملية الإدمان عملية معقدة لكنها مرتبطة بشهوات النفس بشكل رئيسي، مثلها مثل الإدمان على الكحول والمخدرات وصولاً إلى المواد الإباحية والقمار وغيرها من أشكال الإدمان. وفي هذه الحالات أيضاً نلاحظ أن المدمن بعيداً عن فيزيولوجية الإدمان نجد السمة السابقة متواجدة في سلوكه بشكل كبير! فالمدخن يظن أن الأمراض التي تصيب الرئة بسبب التدخين بعيدة جداً عنه على أقل تقدير، لذلك لا نراه يبذل الجهد المناسب لترك التدخين، لكن مع أول انسداد لأحد الشرايين القلبية نراه يبدأ يفكر (يفكر!) بترك التدخين (البعض لا يترك، والبعض ينتظر انسداد بضعة شرايين أخرى!) وربما لا يتركه!

بالمحصلة كلما ابتعد الأثر قل الاهتمام! هذا في ما يكون أثره مدركاً في حياتنا، فما بالك بأعمال أثرها النهائي ليس في هذه الحياة إنما في الحياة الآخرة؟! ما بالك بالدين!

ولأن أثر الدين الرئيسي (دخول الجنة أو النار) هو أثر بعيد نظرياً عن مرأى الإنسان نجد كثيراً من الناس لا تعير الموضوع الأهمية المطلوبة! ونجدهم في غفلة من أمرهم! وكأن هذه الحياة هي الحياة الأولى والآخرة! قد يكون الإنسان مسلماً (نظرياً) لكن كل سلوكياته تقول بأنه لا يعير الآخرة أدنى اهتمام! وتختلف الأسباب بين إلحاد من ناحية وكسل وإهمال وغفلة شديدة من ناحية أخرى!

والملحدون في غالبيتهم ليسوا ملحدين عن تفكر وبحث وتقصي، إنما نجدهم ملحدين لأتفه الأسباب الفكرية والمنطقية! والبعض ملحد اتباعاً للشهوات فقط، والآخرون ملحدون اتباعاً وهروباً من التزامات الدين فقط! وهناك الذي يقول بأنه مسلم ولكنه في غفلة شديدة عما يجب أن يفعله وأن يكون عليه! والسبب كما ذكرنا بعد الأثر!

الناس منشغلة بالحياة الدنيا، بين مهمل غافل وملحد، والسبب مشترك: بعد الأثر والغفلة عنه!

وكما في حالة مثالنا عن الطالب المجد الذي يدرس كل يوم حتى لو كان الامتحان بعيداً، فإننا في الحياة وفي كل مجالاتها نجد الناجح هو الذي يلتفت لنهايات الأمور ويعتبرها قادمة من غده! فيعد لها العدة ويتجهز لها تمام التجهز، فإذا جاءت كان مستعداً لها. والأمثلة نجدها في كل مجالات الحياة، كل الناجحون هم الذين ينظرون لمآلات الأمور ولا يهملونها أو يغفلون عنها.

وكذلك الأمر في الدين، وهو قمة تلك المآلات وأهمها، ومن ناحية أخرى هو أبعد الأمور أثراً على حياة الإنسان، لذلك يكون الناس أكثر ما يكونون في غفلة عنه!

اختراع العجلة من جديد!

موضوع التدخين والإدمان عليه يقودنا أو يرتبط بمسألة أخرى أحب أن أذكرها في هذا السياق، سياق أفكار منتصف النهار! (هي تأتي في منتصف النهار، وأنا أكتبها غالباً في منتصف النهار بعد استراحة الغداء في مكان العمل، لذلك التوصيف دقيق نوعاً ما!).

نلاحظ أننا بالرغم من أن المدخن أو الذي بدأ التدخين للتو يعلم تماماً أن التدخين أحد الأسباب الرئيسية (لا نقول المسبب وذلك التزاماً بالمنهج العلمي، نخصص لها فكرة مستقلة) لسرطان الرئة والأمراض القلبية. ولكن لسبب من الأسباب (الإدمان والغفلة أحدها بالتأكيد) فإن هذا المدخن الجديد لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار، أي يمكن أن نقول بأنه لا يتعظ بغيره! لسبب ما يظن أن ذلك لن يحدث له! رغم أنه يشاهد يومياً وفي كل مكان ربما حالات لأمراض مستعصية ناتجة عن التدخين! ولكن لبعد الأثر يظن أنه بمنأى عن كل ذلك! ويدخل في اختراع العجلة من جديد بدون أن يتعظ بغيره أو يستفيد من تجربة غيره!

وبالمثل فإن هذه الحالة (الإصرار على اختراع العجلة من جديد) نجدها في كل مكان! فمثلاً شخص يريد أن يفتتح مشروعاً، ينصحه زميله ببعض النصائح من باب التجربة السابقة التي مر بها، لكن صديقنا يعتقد بأنه متفرد في مشروعه ويصر على البدء به رغم كل النصائح التي توجه له في سبيل تعديلات معينة مثلاً على المشروع، لكن بلا فائدة، يصر صديقنا (كما نفعل ذلك كثيراً بأنفسنا طبعاً) على اختراع العجلة من جديد!

ولكن المنطق يقول بأن الإنسان كلما استفاد من تجارب غيره كلما وفر على نفسه الوقت وكسب أكثر لأنه استفاد من عامل الزمن ولم يكن بحاجة لاختراع العجلة من جديد! ومن هنا أهمية الكتب والقراءة لأن أحد أبوابها هو عرض تجارب الناس من قبلك في شتى المجالات، ونقل آخر ما توصل له العلم مثلاً في باب من الأبواب (افتتاح مشروع معين مثلاً) بحيث لا تضطر أنت لاختراع العجلة من جديد، بل تبدأ بعجلة تعمل، وتضيف وتعدل عليها!

الطلاب في مختلف المراحل الدراسية هم عرضة لهذه التجربة! طبعاً في حالة الطلاب يمكن أن نعزو الأمر إلى أن الطالب لم يصل بعد لمرحلة النضج الفكري التي تسمح له بخوض تجاربه الخاصة بمزيد من الحذر، ولكن في مجال الدراسة والتحصيل العلمي، فإن البعض يصر على عدم الالتزام مثلاً بالدراسة الجدية حتى اقتراب الامتحانات، متجاهلين كل التجارب السابقة التي مروا بها هم أنفسهم أو علموها من أصدقائهم، فتراهم في بعض النواحي يصرون على اختراع العجلة من جديد!

وربما هذا طبع في الإنسان بشكل من الأشكال! وأنا أربطه بسؤال كان يرادوني كثيراً في الماضي إلى أن وجدت له جواباً، السؤال كتبت عنه تدوينة خاصة تجدها هنا: وجدت جواباً يقنعني! وخلاصتها أن الإنسان يعيش الحياة الدنيا بالرغم من أن الله يعرف يعلمه المطلق مسبقاً من سيدخل النار ومن سيدخل الجنة، وكان تفسيري لمنح الله الحياة لنا رغم ذلك هو أننا سنصر (حتى أمام الله ربما، من جهل الإنسان وقصور علمه!) بأننا ربما سيكون مصيرنا مختلفاً لو أننا عشنا الحياة الدنيا مثلاً! وهذا نراه في كثير من الأمور الأبسط من قبيل قول أحدنا في مكان ما: لو أنك سمحت لي بالمحاولة لنجحت! رغم أن كل المعطيات مثلاً ربما تقول بأنه سيفشل! لكنه جهل الإنسان وقصور علمه!

وربما هذا هو السبب وراء إصرارنا في بعض الأحيان على اختراع العجلة من جديد! والمصيبة يا صديقي أن بعضنا حين يصر على اختراع العجلة من جديد، فإنه يخرج بعجلة مربعة في نهاية الأمر!

البعد الرابع: الزمن!

من لطائف الإعجاز في القرآن الكريم معلومة شاهدت فيديو قصير عنها منذ فترة، وهي تتحدث عن قوله تعالى: {یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ یَعۡرُجُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥۤ أَلۡفَ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ} السجدة 5.

ولطيفة الإعجاز في الآية هي كالتالي: الله سبحانه وتعالى يقول بأن الملائكة تعرج إليه في يوم واحد، ولكن هذا اليوم يعادل ألف يوم مما نعد. ونحن نعد الأيام تبعاً للتقويم القمري، بمعنى أن الملائكة تسير في اليوم ما يسير القمر في ألف يوم. ونحن نعلم أن الملائكة مخلوقات نورانية فهذا يعني أن سرعتها قريبة من سرعة الضوء. فإذا حسبنا سرعة الملائكة تبعاً للآية السابقة ووجدناها قريبة من سرعة الضوء تبين الإعجاز الموجود في الآية.

الحساب بسيط، سرعة القمر التقريبية 1.025 كم في الثانية *24*3600 = 88560 كم في اليوم *354 يوم في السنة الهجرية = 31350240 كم في السنة الهجرية *1000 سنة (كألف سنة مما تعدون) = 31350240000 كم في الثانية وهي قريبة جداً من سرعة الضوء التي هي 299,792.458. (هل تسير الملائكة أسرع من الضوء أم بسرعته أم أقل قليلاً؟ هذا يعتمد على دق الحساب ربما وأخذ بعض العوامل الأخرى بعين الاعتبار، لكن ما يهم هو تقارب الرقمين بشكل كبير).

لكن كما نعلم الأجسام التي بلا كتلة، كالفوتونات، والتي تسير بسرعة الضوء فإن الشعور بالزمن بالنسبة لها مختلف تماماً عما نشعره نحن. بالنسبة للفوتون فإن انتقاله من نقطة أولى إلى نقطة ثانية مهما كانت المسافة بعيدة بينهما يتم بشكل آني بدون أي تأخير في الزمن بالنسبة له. مثلاً الفوتون الذي ينتقل من مركز الشمس إلى سطحها (مسافة 1.3927 مليون كم) فإن الزمن (بالنسبة لنا) والذي يستغرقه الفوتون في هذه الرحلة يقدر بـ 200 ألف سنة (ليس لطول المسافة ولكن لأنه يستمر بالدخول والخروج في تفاعلات تحدث له على الطريق). هذه المدة بالنسبة للفوتون غير موجودة، بالنسبة له فهو تولد في مركز الشمس ووصل السطح في نفس اللحظة! وبالمثل وصل الأرض وتم امتصاصه مثلاً من نبتة على نافذة غرفتك في نفس اللحظة أيضاً بدون أي وقت مستغرق!

من الصعب فهم ذلك مقارنة بمفهومنا عن الزمن، ولكن هذا ما تقوله نظرية النسبية يا صديقي!

بالعودة للأبعاد، وكما يقال لنا أن البعد الرابع تبعاً للنظرية النسبية هو الزمن. طبعاً لن نخوض في الرياضيات البحتة المتعلقة بالموضوع (هناك تخصص اسمه الرياضيات البحتة) ولكن أحب أن ألفت نظرك إلى نقطة هنا، وهي أننا نلاحظ في الانتقال من البعد الثالث إلى البعد الرابع اختلاف في طبيعة البعد! فبينما الثلاثة أبعاد الأولى هي من نفس الطبيعة، نلاحظ عن القفز للبعد الرابع وهو الزمن اختلافاً في طبيعة البعد عما سبقه. وهنا أطرح السؤال التالي:

هل الأبعاد الأعلى (وفق نظريات الفيزياء المختلفة) هي أيضاً ستكون مختلفة في طبيعتها عما سبقها من أبعاد؟ فلا تكون مرتبطة بالأبعاد الفراغية ولا بالزمن؟ كيف ستكون طبيعتها يا ترى؟ سؤال يروادني!

أضف تعليق