من قبس الكلام! — 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العرش العظيم والصلاة والسلام على نبيه الكريم.

من جميل ما قاله الشيخ الشعراوي رحمه الله عن الدنيا، معبراً عن معناها الحقيقي وموجهاً للغاية الحقيقة التي يجب على الإنسان ألا يغفل عنها، وما أشد غفلته!

آفة الدنيا أنهم (البشر) يعيشون فيها ولا يعرفون الغايات النهائية، إنما يعرفون الغايات الجزئية. يريد أن يتعلم لكي يتوظف لكي يتزوج ويبني أسرة ويعيش بشكل جيد. يريد أن يتاجر لكي يكسف المال.
الشاطر، لا ينظر للغايات الدنيا (القريبة) بل يذهب للغايات المنتهية، بل ينظر للغاية التي هي في النهاية. فمعنى الدنيا الغايات القريبة، ومعنى الدنيا الأدنى أي الأقرب. فالناس كلها تعبها في أنها تعمل للغايات الدنيا، والواجب أن ينظر للغاية النهائية!

وهذه الغفلة عن حقيقة هذه الحياة هي أكثر ما تراه بين الناس! صحيح أن الحياة ومتطلباتها تمسك بتلابيب الإنسان وتدفعه للعمل والسعي والجد فينسى أحياناً إلى أين يتجه مركبه في النهاية! ولكن كل ذلك يجب أن يصاحبه وعي وصحوة عن غاية هذه الحياة ومنتهاها!

ولن تجد مرضاً في أي مجتمع أكثر انتشاراً من الغفلة عن هذا المعنى! وهذا من طبع الإنسان! فالطالب مهما كان مهملاً فإنه في النهاية يدرك تماماً أن الامتحان قادم ويحاول أن يستعد له في الأسابيع الأخيرة من العام. وحري بالطالب المجد أن يستعد منذ اليوم الأول للعام الدراسي. هذا الحال في امتحان معروف الوقت، فماذا نقول في امتحان لا وقت محدد له؟ قد ينتهي العمر (العام الدراسي) في أي لحظة، فماذا يفعل من لم يتحضر لذلك الإمتحان؟!

واللطيف في الأمر، أنك حتى في أمور الدنيا (التي من معانيها الأقرب والأقل مكانة) كلما كان نظرك بعيداً كلما كان عملك أكثر جدية وكنت أكثر وعياً لما أنت مقبل عليه! فالطالب الذي يرى الامتحان النهائي يدرس له، والذي يرى ما بعده ويرى ويعرف ما يريد من نفسه أن يكون يدرس بالقدر الكافي لدخول التخصص الجامعي الذي يريده، فنلاحظ هنا أن نظرته البعيدة أملت على أفعاله القريبة التزاماً معيناً! فمن يريد أن يكون طبيباً مثلاً يعرف أن عليه أن يدرس بشكل أكثر بكثير ممن يريد أن يكون عاملاً فقط (والخير في الجميع بلا شك، إنما نتحدث عن العمل فقط).

فنظرتك للنهاية يجب أن يكون لها إسقاط على عملك الحالي، وكلما بعدت النظرة كان الأثر أكبر والنجاح أكثر والوصول له أضمن. وغاية الغايات ومنتهاها هو ما نؤول له بعد الموت، إذا لا أبعد من ذلك! وهذا سبب غفلة الناس عن هذه الغاية، شدة بعدها والناس أساساً يتفاوتون في وعيهم لغايات أقرب من هذه بكثير!

ومن جميل ما قاله الدكتور مصطفى محمود عن سر النجاح في هذه الدنيا وعن فلسفة العمل في الدينا عموماً:

أن تقاوم ما تحب وتتحمل ما تكره!

ويقدم الدكتور مصطفى لذلك بحديثه عن قول طالوت لجنوده أثناء الزحف: [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِیكُم بِنَهَرࣲ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَیۡسَ مِنِّی وَمَن لَّمۡ یَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّیۤ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِیَدِهِۦۚ فَشَرِبُوا۟ مِنۡهُ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۚ] البقرة 249

ربط الانتصار بالمعركة بالانتصار على النفس، رغم العطش منعهم الشرب إلى غرفة من النهر، فكانت النتيجة أنهم شربوا منه إلا قليلاً منهم! وهؤلاء هم القليل في كل عصر وشعارهم: نقاوم ما نحب ونتحمل ما نكره.

وهاتان الكلمتان تلخصان كل ما في الدنيا، فالدنيا هي النهر الذي يجري تحت أقدامنا، وكل واحد منا يغترف منه. واحد يغترف على قد كفافه، والآخر يحمل الكثير منه! والله خلق الدنيا بهذا الشكل ليفرز تلك القلة الذين هم أصحاب الجنة والباقي هم حطب النار في الآخرة.

وهذا الكلام مرتبط بالكلام السابق عن الغايات النهائية التي يجب علينا أن نركز عليها! فالإنسان بطبعه مثلاً يحب الراحة، ولكن كثرة الراحة مدمرة للإنسان على كل الأصعدة! فكثرة الراحة والمبالغة فيها تقلل من نشاط الإنسان فضلاً عن أنها تقلل من قدرته على النمو والإنجاز. ومن طبع الإنسان أنه يحب النوم وكثرته، وبالمثل كثرة النوم مضرة بالإنسان! بالمثل الإنسان يحب الطعام ولذته، ولكن الإكثار منه يضر بالإنسان من كل ناحية!

وعلى ذلك قس! فالإنسان مطلوب منه أن يأخذ حد الاعتدال من كل ما يحب، وما أجمل توصيف القرآن [إلا من اغترف غرفة بيده] فالأمر لا بد منه، ولكن خذ على قدر كفافك فقط! لا تكثر ولا تأخذ أكثر من حاجتك، وركز على الغاية النهائية.

الجانب الآخر أن تتحمل ما تكره! أنت تكره أن تقوم للرياضة والجري، ولكن عليك أن تتحمل ذلك لأجل أن تحصل على جسد سليم وعقل سليم بالمحصلة! أن تكره أن تجلس للدراسة ساعات طويلة، ولكن لا سبيل للنجاح والتفوق بغير ذلك! وعلى ذلك قس كل شيء مطلوب منك للتقدم والنجاح في هذه الحياة!

كلمات قصيرة تلخص الكثير حقاً!

أضف تعليق